Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
Zighcult
4 décembre 2005

الأخ شـارل دي فـُـوكـو Charles de Foucauld

’’ إن أفضل طريقة، لكي تُحبّ حبّا حقيقيّا،

 

   هي أن تشارك الناس في حياتهـم الواقعيّة،

 

   بأفراحها وأتراحها فيستقر في قلبك حبّ الله ذاته:

 

  "ما صنعته لأحد هؤلاء الصغار، فلي قد صنعته"‘‘.

 

عام 1916 كانت الحرب حامية الوطيس، لا في أوروبا وحدها، بل في القارات الاخرى أيضا. في وسط هذه "المعمعه" بالذات، كان راهب فرنسي يدعى شارل دي فوكو يعيش حياة ’’الطوارق‘‘ منذ عدة سنوات وعمره 58 سنه.  ومن أجل تأمين الحماية لهم في ظروف الحرب، بنى الراهب بالتعاون معهم برجا صغيرا (حصن) يلجأ اليه القرويون اذا ما تعرضوا لهجوم الاعداء. وقد أوى اليه هو نفسه منذ بضعة أشهر.

 

في مساء الاول من كانون الاول ناداه صوت من الخارج، فظن أنه ساعي البريد جاء يسأله هل لديه رسائل يبعث بها، فخرج مطمئنا، واذا برجال من قبيلة معادية يهجمون عليه، ويرغمونه على الركوع، فيوثقون ذراعيه وراء ظهره ويربطونها برجليه، في حين أسرع آخرون ونهبوا البرج. وفي هذه الاثناء أقبل ساعي البريد الحقيقي، فاستولى الهلع على الغزاة. وقبل أن ينسحبوا أطلق الفتى الذي كان في حراسة شارل رصاصة في رأسه فأردته قتيلا. وطوال تلك الدقائق الثقيلة لم يبد أيّة مقاومة، ولم ينبس ببنت شـفـّة. وكأن تلك الميتة لم تفاجئه. أليس هو من كتب في مذكراته الشخصيّة منذ سنوات: ’’فكّر أنك ستموت شهيدا. مسلوبا كل شيء، ممددا على الارض، عريانا، مشوها مضرجا بالدم والجروح مقتولا بعنف وضراوة... وتُق الى أن يتم كل ذلك‘‘.

وعثر أصدقاءه على حُـقـّة القربان مرميّة بالقرب من جسده العاري الذي ألقاه المعتدون في خندق البرج، والى جانبه القربان الاقدس معفرا مهانا. لقد بلغت رغبته حتى النهاية في التشبه بيسوع الناصري، هو الذي كان يدعوه: ’’ أخاه وسيّده الحبيب ‘‘. مثله أعطى حياته بصمت من أجل الذين أحبهم، من أجل جميع الناس، من أجل جلاديه أنفسهم: ’’خذوا... هذا هو جسدي المبذول من أجلكم‘‘!.

 

ولكن، ترى ما الذي دفع بهذا الرجل بعيدا، الى هذا الحدّ عن بيته ووطنه، عن قاعدته الثقافية وعن دينه؟... بل عن ذاته أيضا ؟ .

 

لقد ولد في الخامس عشر من أيلول عام 1858 وترعرع في عائلة ارستقراطيّة فرنسية ثرية. فقد والديه وهو بعد في السادسة من عمره. فتعهّد جدّه في تربيته تربية مسيحيّة. ولكنه ابتعد عن الايمان في مرحلة مراهقته تدريجيا حتى فقده تماما. ولما تخرج ضابطا، استسلم لحياة ماجنة، لا أثر فيها البتة لأي شعور ايماني، فلم يلق سوى الفراغ. لقد ’’سئم ‘‘ حياة الثكنة، لكن حملة ’’عسكريّة ‘‘ أفاقة النخوة لديه، فأحب حياة المعسكرات. ويوم أعادوه الى الثكنة، قدم استقالته وأعدّ باهتمام رحلة استكشافية علمية الى المغرب ليقتحم مناطق لم تكن قد وطئتها قدما "أوروبي".

احتكاكه بالايمان الاسلامي أثر فيه أيما تأثير، ’’ان مرأى ذلك الايمان، وتلك النفوس التي كانت تعيش في حضرة الله المتواصلة، كشفا له أن ثمة ما هو أعظم وأصدق من الاهتمامات الدنيويّة‘‘. فأخذ يبحث عن الحقيقة وهو يردد هذه الصلاة: ’’يا الهي، إن كنت موجودا، هب لي أن أعرفك‘‘. وكان عمره 28 سنة بعد رحلته الاستكشافيّة الى المغـرب .

’’لقد احتككت بأشحاص أذكياء أفاضل ومسيحيين حقيقيين فقلت في نفسي: لعل هذه الديانة ليست كما أظن نسجا من اللامعقول. وكانت نعمة تعمل في أعماقي بقوّة شديدة‘‘. ثم قرر أخذ دروس في الدين المسيحي الكاثوليكي ليرى ’’هل ينبغي الايمان بما يقول‘‘؟ فالتفّ حول كاهن تقي ومثقف جدا الاب هيفلان: ’’فأتيته طالبا دروسا في الدين. أما هو فأمرني بالركوع وجعلني أعترف بخطاياي ثم دعاني الى التناول على الفور‘‘. فكانت الصدمة وكان اللقاء. فلقد جاء ينشد أفكارا وعلما، واذ به يلتقي شخصا قريبا منه.
إن هذه الخبرة طبعت حياة شارل كلها : ففيها نال الغفران بواسطة التوبة، إجتاحته في أعماقه خبرة إله كان ينتظر عودته بحب غامر ولقد لمس هذا الحب في المغفرة التي نالها في مجانيّة تامة، لا غير.

فلقد نال كل شيء مجانا من الله. وفي الافخارستيا كان قد التقى وجه اله كله مشاركة، بحيث وهبه كل ما له: حياته، وحتى كيانه. وجاء جواب شارل على الفور هبة بهبة. ترى، هل كان بوسعه ان يجيب عن هبة الله ذاته كاملة الا بهبة كاملة لذاته؟

’’ما أن آمنت بوجود الله، حتى أدركت أني لا أستطيع ان أحيا لسواه، فدعوتي الرهبانية يرجع تاريخها الى ساعة إهتدائي‘‘: ’’أن لا أحيا سوى لله ‘‘. وقد تعلم ذلك شارل من يسوع نفسه، فحج الى الاراضي المقدسة، فقصد بيت لحم ليحتفل بميلاد عام 1888 حيث وقع أسير "التواضع غير المحدود"، الاله الذي صار واحدا منا. أيعقل أن يكون هذا الاله الخالق قد جاء ليعيش على الارض! ومن بيت لحم توجه الى القدس حيث ساقه التأمل ليرى أي مدى بلغ حب الله للانسان. أخيرا  وصل الناصرة حيث أضاء له نور جديد تحكم في حياته كلها. ويتلخص هذا النور في الاكتشاف التالي: أن الله لم يأت ليعيش حياتنا البشرية كيفما كان، ولا في أية بقعة كانت، بل اختار الناصرة ليعيش فيها، كأي "نَصْراوي" اعتيادي آخر، مرتبطا بسكان هذه القرية الصغيرة ومعتنقا حياتهم الفقيرة. ومذ ذاك فهم شارل ما هي دعوته: "دعوتي... تخيلتها وتصورتها إذ كنت أتجول في أزقة الناصرة، تلك التي وطئتها قدما ربنا الحِرَفي الفقير".

’’أن أتبع يسوع الحِرَفي "النّصراوي" الفقير.

   حياة الناصرة ولا شيء سوى ذلك في بساطتها واتساعها‘‘.

لقد شعر منذ البداية بأن عليه، لاتباع من يحبّه، أن ينسلخ عن أمور كثيرة من ماضيه، وبأن يقطع الصلة بنشاطات كثيرة يحبها، وخاصة أن يقطع الصلة بأسرته (كانت هذه أكبر تضحياته). وبحث أول الامر في صيغ لحياته الرهبانية التقليدية. كما كان يفكر القسم الاكبر من كاثوليك زمانه، ’’لمن أراد اتباع الله عليه أن ينقطع عن العالم: لذا فانه لاتباع يسوع في فقر الناصرة، اختار افقر دير يعرفه من أديرة الصمت في "الصلاة والعمل" الا وهو دير الشّخلي في اقليم أنطاكيا السوري آنذاك‘‘.
ولكن سرعان ما اعتراه القلق، بعد أن وجد أن أفقر دير لا يروي أشواقه: ’’إننا فقراء بالنسبة للاغنياء، ولكننا لسنا فقراء كما كان ربنا، وكما كنت أنا في المغرب، وكما كان القديس فرنسيس‘‘.

 

وكتب يوما، بعد عودته من الصلاة في بيت عائلة عامل أرمني، كان قد توفي في القرية المجاورة للدير. ’’ما أعظم الفرق بين حالة هذا البيت وما كان عليه حال بيتنا. إنني أحن الى الناصرة. وفي الواقع، كان فقر الدير فقرا حقيقيا، لكنه غير الفقر الذي كان يعانيه قرويوا المنطقة. فاستنتج شارل أنه لم يكن نظير فقر يسوع في الناصرة‘‘.

إذ ذاك فهم ان الحياة الرهبانية التقليدية عاجزة عن تحقيق حلمه في التمثل الكامل بحياة يسوع الناصريّ. وأن عليه أن يبتكر شيئا جديدا. فغادر الدير وتوجّه الى الناصرة، ليعيش هناك حيث عاش يسوع نفسه، وانخرط في خدمة دير الراهبات الكلاريّات بزيّ عامل بسيط، لا بزيّ رهباني، مُنزويا في غرفة تقع خلف بستان الدير، يقضي معظم نهاره وليله يصلي في إلفة يسوع حبيبه الحاضر في الناس وفي القربان المقدس.

 

ومن ثم، شعرت برغبة في المزيد من الفقر والمذلة تشبها بيسوع، فقصدت روما وحصلت على إذن من رئيس الرهبنة العام يسمح لي بالذهاب وحدي الى الناصرة. لأحيا فيها عاملا مجهولا يعيش من عمله  اليومي. ومكثت هناك أكثر من أربعة أعوام في عزلة تامة وخلوة هنيئة وتأمل عميق. متذوقا هذا الفقر وهذه الضّعة اللذين جعلني الله أتوق اليهما بكل جوارحي تمثلا به... ‘‘.

 

وبعد أيام قليلة من استقراره في الناصرة كتب الى ابن عمّه لويس دي فوكو، في 12 نيسان 1897 : ’’لقد استقررت في الناصرة ووجدت فيها، بعون الله تعالى، أقصى ما كنت أبحث عنه: الفقر، الخلوة، المذلة، والعمل الوضيع، والخفاء الكلي، والتمثـّل على أكمل وجه بما كانت عليه حياة الرب يسوع في قرية الناصرة هذه عينها... لقد اعتنقت اسلوب العيش الوضيع الخفي الذي مارسه الله، عامل الناصرة...‘‘.

 

لكن الأخ شارل بدأ يشعر، يوما بعد يوم، بأن حياته في الناصرة حياة موحشة ومنعزلة، حياة نسكيّة منفصلة عن الناس جدا. وصار يفكّر في أن يسوع، الذي يحيا في حماه، لم يعش على هذا النحو. ذلك بأن شارل يحس بيد الله تدفعه، لا أن يحيا مع يسوع ولأجله فحسب، بل مثل يسوع أيضا، أي أن يتمثـّل به على أكمل وجه. فيسوع الذي جاء ليخلّص العالم، لم تكن حياته عزلة عادة، بل شارك فلاحي قرية من قرى الجليل وعمالها حياتهم الوضيعة، وارتبط بهم بصلة القربى والصداقة، حاملا حب الله الى قلب الانسانية في صراعها اليومي. وشعر الاخ شارل بأن عليه، اذا ما أراد أن يكون مع يسوع الناصري، الذهاب لا الى" حيث الارض هي أكثر قداسة"، بل الى "حيث النفوس هي أكثر حاجة"، ليهتف لهم بالانجيل لا بالكلام، بل بالحياة". لذا قرر أن يترك الناصرة.
’’وأنا الآن أسعى الى الصحراء الكبرى لأتابع ممارسة ’’حياة يسوع الخفية‘‘ في الناصرة. لا أن أعظ، بل أن أحيا في العزلة والفقر والشغل الوضيع، كيسوع مهتما في عمل الخير للنفوس، لا بالكلام بل بالصلاة وتقديم الذبيحة الالهية والتوبة وممارسة محبة القريب‘‘.

 

وبتوجيه من معرّفه، قََـَبِـِلَ عام 1900 في فرنسا الرُّتب المقدسة وسر الكهنوت المقدس، وحط رحاله عام 1901 في واحة بني عبّاس في الصحراء الجزائرية، قرب الحدود المغربية. هناك عايش ثانية هؤلاء السكان المسلمين الذين عرفهم وأحبّهم قبل اهتدائه.
’’تلك الوليمة الالهية التي صرت خادما لها، كان علي أن أقدمها لا الى الاقارب او الاغنياء من الجيران، بل الى المقعدين والعميان والفقراء‘‘.

وفي بني عبّاس شيّد له بيتا لسكناه، سماه " أخوّة " (Fraternite)وصممه على هيئة دير مصغّر يتسم بالبساطة والفقر، وأحاطه بحصن رهباني لا يتجاوزه الا في الحالات الاضطرارية، وألزم نفسه بقانون صارم. وكان يقضي ساعات طويلة مصليا في المعبد.
’’عندما يحب المرء، فإنه يود التحدث دون انقطاع الى الشخص الذي يحبّه، أو على الاقل النظر اليه من دون انقطاع . الصلاة ليس سوى ذلك: حديث ودي الى حبيبنا. ننظر اليه، ونردد اننا نحبّه، ونجد المتعة في ان نكون عند قدميه ونقول له اننا نود لو نحيا ونموت هنا‘‘.
’’عندما يحب المرء، فإنه يود التحدث دون انقطاع الى الشخص الذي يحبّه، أو على الاقل النظر اليه من دون انقطاع . الصلاة ليس سوى ذلك: حديث ودي الى حبيبنا. ننظر اليه، ونردد اننا نحبّه، ونجد المتعة في ان نكون عند قدميه ونقول له اننا نود لو نحيا ونموت هنا‘‘.

 

’’عندما يحب المرء، فإنه يود التحدث دون انقطاع الى الشخص الذي يحبّه، أو على الاقل النظر اليه من دون انقطاع . الصلاة ليس سوى ذلك: حديث ودي الى حبيبنا. ننظر اليه، ونردد اننا نحبّه، ونجد المتعة في ان نكون عند قدميه ونقول له اننا نود لو نحيا ونموت هنا‘‘.

 

لكن الاخ شارل لم يتردد أبدًا في ان يقطع صلاته لممارسة الضيافة. فالضيافة تحتل موقعا كبيرا من حياته، ويحدث له أن يستقبل مئة طارق في النهار.

 

’’أريد أن يتعود السكان، من مسيحيين ومسلمين ويهود ووثنيين، ألا يروا فيّ الا أخا لهم جميعا. لقد أخذوا فعلا يدعون مسكني " أخُوّة " ( Fraternite ) وهذا ما يطيب لي كثيرا ‘‘. 

وهكذا، فصلاته لا تبعده عن الناس، بل بالعكس تدفعه الى أن يتحسس كل مآسيهم. فلقد بذل جهودا جبّارة لالغاء العبوديّة التي كانت ما تزال قائمة في المغرب آنذاك.

 

’’ يجب ان نحب العدل ونبغض الاثم، واذا ما ارتكبت الحكومة ظلما كبيرا في حق من هم تحت امرتنا، فينبغي أن يقال لها ذلك... فلا يسوغ لنا أن نكون "نواطير نائمين" أو "كلابا لا تنبح" أو "رعاة غير مبالين" ‘‘.
لقد وصل الامر به حتى شراء عدّة عبيد بنقوده الشخصية ليمنحهم حرّيتهم بعد ذلك: " ما فعلتموه لأحد اخوتي هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه".
لقد جعل كلمات يسوع هذه قاعدة أساسية لحياته، مما دفعه الى أن يزداد توجها نحو الآخرين، والارتباط بهم بوشائح الحياة. وعلى العكس مما كان عليه في الرهبنة "السكوتية" أو الناصرة. لن ينشد بعد اليوم تحرّره من ذاته والاتحاد بالله عن طريق الابتعاد عن الناس، بل بالاتصال بهم والانقياد لهم.

 

فلقد بلغه أن بالامكان التغلغل في الصحراء باتجاه الجنوب، نحو منطقة الهوغار، حيث تعيش أقوام مهملة في تلك المجاهل نحو منطقة الهوغات البعيدة. فقرر المضي من دون تردد، وكتب الى مطرانه: ’’إنك تسألني هل أنا مستعدّ لأن أذهب الى أقصى المعمورة وأن أحيا الى الدينونة العامة‘‘.

 

وهكذا قضى الأحد عشر عاما الأخيرة من حياته عند الطوارق، في ضيعة تدعى (Tamanraset ) تامنراست.

لم يعد في نيّته أن يبني ديرا صغيرا، بل أقام بضعة أكواخ بسيطة، شبيهة بأكواخ سكان القرية. لقد ترك فكرة حصن الدير، وصار يتجوّل بحريّة في القرية التي صار أحد أفرادها، يشاركهم حياتهم اليومية.

 

’’... عــدم اتخاذ زيّ رهباني خاص، مـثــل يسـوع في الناصرة،
       عــدم التقـيد بـحـصــن الــديــر، مـثــل يسـوع في الناصرة.

 

عدم السكنى بعيدا عن الاماكن الآهلة بل بجوار القرية، مثل يسوع في الناصرة.

 

لا أقل من ثماني ساعات في العمل اليدوي أو غيره في النهار، مثل يسوع في الناصرة،

 

عــدم امتـلاك أرض واسـعة أو مسـكن وعـدم الاكثار من الانفاق، ولا حتى في اعطاء الصدقة، بل التمسك بالفقر في كل ما يخصني، مـثـل يسـوع فـي النـاصـره

لقد وضع الكلام التالي أيضا على لسان يسوع:

’’ ينبغي أن يبقيك الحب فيّ، في أعماقك، ولا الابتعاد عن أبنائي؛

   عليك أن تراني فيهم، كما فعلت أنا في الناصرة،

   عش أنت الى جانبهم، ضائعا بالله‘‘.

 

 

لقد أحب الأخ شارل هذه الاقوام الفقيرة المسلمة العائشة في حالة شبه يدويّة، في أعماق الصحراء. أحبها بعمق، وكنّ لها الاحترام كلّه، مثل الله ابي جميع الناس.

 

’’ أريد أن أكون صديقا للجميع، للصالحين والاشرار،

 

    أريد أن أرى في كل انسان أخا عزيزا ‘‘.

كان الطوارق يتكلمون لغة يجهلها الاوروبيون، فانكبّ الاخ شارل عليها، ووضع لها عدّة معاجم وقواعد، وجمع قصائدها الشعبية في دواوين، بدقة بالغة تضفي على مؤلفاته قيمة علمية عالية، ولكن هذه الاعمال لم يقم بها لمجرد ميوله الالسنية أو لمجرد البحث العلمي النظري، بل دفعته اليها ضرورات الصداقة في ان يتعرّف الى من يحبّهم، ويتكلم لغتهم، وينشر معالمهم، أليس هو القائل: ’’ بقدر ما نعرف الآخر نحبّه‘‘.

 

لقد أصبح الطوارق أسرته، وصاروا يأتونه من كلّ حدب وصوب لطلب مشورته. إنّه يشارك أصدقاءه طموحاتهم الى ظروف حياتيّة أفضل، ويعمل على مساعدتهم. فها هو في مجاعة عام 1906 – 1908 يقاسمهم كل ما يملك. وفي تلك الفترة، كتب شارل في دفتره يوم 20 كانون الثاني 1908 :
’’إضطررت الى التوقّف عن عملي... يسوع ، مريم، مار يوسف، بأيديكم أسلم نفسي وروحي وحياتي‘‘.   مـا الخـبـر ؟

لقد بلغ التعب والمرض منه مبلغا، وتجاوز حدود المستطاع: إحدى عشرة ساعة من الترجمات يوميا، والمجاعة تفتك بالبلاد، والمؤونة نفذت من بيوت الناس ومن عنده. ولما لم يعد لديه ما يعطي سائليه، إنقطعت الرجل عنه. فكانت العزلة داءه الاكبر.وكان يعود تاريخ آخر رسالة طرقت بابه الى ستة أشهر خلت، وهكذا حرم دفء ذويه، والدعم المعزي الذي كان يأتيه من مرشده الأب هيفلان، فثقلت عليه عزلة القلب. ومما زاد في وطأة ألمه عدم حصوله على إذن لإقامة الافخارستيّا وحده، وعدم مروره أي مسيحي لديه منذ عدّة أشهر. لقد قضى عيد الميلاد بالذات من دون قداس، فما معنى حياته هنا؟... إنّه لم يحصل على أيّ إهتداء منذ أن قدم الى هذه الديار... أو يموت الآن هكذا وحيدا؟ لكن حقل العمل واسع من أجل ’’خلاص النفوس‘‘. إنه الاخفاق بعينه!

لقد بلغ التعب والمرض منه مبلغا، وتجاوز حدود المستطاع: إحدى عشرة ساعة من الترجمات يوميا، والمجاعة تفتك بالبلاد، والمؤونة نفذت من بيوت الناس ومن عنده. ولما لم يعد لديه ما يعطي سائليه، إنقطعت الرجل عنه. فكانت العزلة داءه الاكبر.وكان يعود تاريخ آخر رسالة طرقت بابه الى ستة أشهر خلت، وهكذا حرم دفء ذويه، والدعم المعزي الذي كان يأتيه من مرشده الأب هيفلان، فثقلت عليه عزلة القلب. ومما زاد في وطأة ألمه عدم حصوله على إذن لإقامة الافخارستيّا وحده، وعدم مروره أي مسيحي لديه منذ عدّة أشهر. لقد قضى عيد الميلاد بالذات من دون قداس، فما معنى حياته هنا؟... إنّه لم يحصل على أيّ إهتداء منذ أن قدم الى هذه الديار... أو يموت الآن هكذا وحيدا؟ لكن حقل العمل واسع من أجل ’’خلاص النفوس‘‘. إنه الاخفاق بعينه!
وفي وسط تلك المحنة شعر الأهلون بخطورة حالته ، فعملوا كل ما بوسعهم لانقاذه. لقد كان عاجزا تماما عن عمل أي شيء ، فشعروا انهم مسؤولون عن هذا الغريب الذي هو ضيفهم. ولقد شهد شارل لرقتهم اذ كتب:
’’ لقد بحثوا لي عن عنزة لها قليل من الحليب في هذا الجفاف القاتل على مسافة 4 كيلومترات من هنا. ما كان ألطف الناس تجاهي ! ‘‘.
انها مبادرات بسيطة تمليها روح المشاركة والتضامن، لكن خطوة حاسمة قد اجتيزت بين الجانبين: لقد أصبحوا واياه اخوة حقا، من دون ان يعوا ذلك جهرا.
قبل تلك الحادثة كان شارل في نظرهم ، شاء أم أبى، ذلك الغريب الذي يحسن اليهم ويتصدق عليهم، من دون ان يكون بحاجة الى شيء . وبالرغم من الجهود التي بذلها لفهم التراث الثقافي الطوارقي، فقد كانوا ينظرون اليه بصفته حامل ثقافة وايمان مختلفين عن ثقافتهم وايمانهم. وبقيت الثغرة كبيرة بينه وبينهم، حتى جاءت فرصة ذلك التبادل الذي يبني الصداقة بما يمثله من تعامل حياتي على قدم المساواة. فها انه كمن ينال الحياة مرة اخرى على ايدي الطوارق ، في اللحظة التي كان معرضا فيها للموت. في تلك الساعة بالذات اجتازوا حقا عتبة حياته الى الداخل، كما يجتازون عتبة بيت ظلوا خارجه حتى الآن.
لقد تاق الأخ شارل، منذ تركه الرهبنة السكوتيه، ان يكون له تلاميذ يعيشون على خطاه، ليسوع ولمحبته، حياة بسيطة، حياة مقاسمة ومشاركة مع الفقراء، ولا سيما مع أولئك الذين يجهلونه، وذلك لكي يقولوا لهم ان الله يحبهم، لا بالوعظ ، بل بشهادة الحياة والصداقة. لنقرأ ما كتبه في احدى رسائله العام 1904:
’’ حبة الحنطة ان لم تقع في الارض وتمت، بقيت وحدها. وان ماتت، أتت بثمار كثيرة‘‘. اني لم أمت بعد، لذا فانا باق وحدي... صل من أجل اهتدائي ، لكي احمل ثمارا اذا ما متّ...ان يسوع يريد ان افعل لانشاء هذه الاسرة المزدوجة. كيف؟ بالتضرع، بتقدمة ذاتي، بموتي، بتقديس ذاتي، واخيرا بالمحبة...ان الرب يستعجل خطانا . فحياته الخفيه الفقيرة الوضيعة الهادئه في الناصرة لا زالت تفتقر الى من يقتدي بها‘‘.
لقد جاء الجواب عن هذه الأمنية يوم الفاتح من كانون الاول 1916 . في هذا اليوم قتل شارل، وحيدا من دون أي تلميذ ، ضحية صامتة، كما يحدث لجمهور الفقراء في كل الازمان ، هؤلاء الذين تسحقهم صدامات تتجاوزهم ولا شأن لهم فيها. في ذلك اليوم تم اللقاء النهائي، لقاء يسوع الناصري، أخيه وسيده الحبيب. فلقد كتب هو نفسه قبل ذلك بزمن يسير:
’’ يا سيدي يسوع، لقد ذقت الموت، ومت من أجلنا. واذا ما آمنا بذلك حقا، فكم سنتوق الى ان نموت، وأن نموت شهداء. كم سنتوق الى أن نموت متألمين عوض ان نهاب الألم . واذا ما قتلنا ،مهما كان الدافع الى ذلك، فسيكون موتنا موت الحب، اذا ما قبلنا في انفسنا هذه الميته غير العادلة والشنيعة كهبة مباركة من لدنك، واذا ما شكرناك عليها وكأنها نعمة رقيقة من عندك، وافتداء بميتتك السعيدة. لو قتلونا وقبلنا ميتتنا بهذه الاستعدادات ، فستكون قربانا ذكي الرائحة لك. واذا لم تعتبر هذه الميتة استشهادا بالمعنى الدقيق في أعين البشر، فستكون كذلك في عينيك أنت، وستكون صورة أمينة تعكس ميتتك أنت ، ونهاية حب تقودنا اليك مباشرة‘‘.

’’الهي الحال فيّ وأنا فيك، أفهمني غبطتي وواجبي!

 

ألا تـنازل وامنحني الشعور الدائم بحضورك فيّ وحواليّ...

   وفي وقت معا، ذلك الحب الجزع الذي يتملكنا في حضرة من نهيم بحبّه

 

فنستمر أمامه ولا نعود نقوى على زحزحة العيون عن وجهه،

بينما تأخذنا رغبة قويّة مصمّمة على تنفيذ كل ما يحسن في عينيه،

ويقلقنا خوف عظيم من إزعاجه بعمل أو فكر أو قول لا يرضيه...

ألا اجعلني  فيك وبك ولأجلك – آمـين‘‘ (الناصرة تشرين الثاني 1897) .

’’أبتي، إنـّي أسـلّم لك ذاتي، فافعل بي ما تشـاء.  ومهما فعلت بي، فأنا شاكر لك.

 

  إنـّي مسـتعد لكل شـيء، وأرتضي بكل شـيء .  ليـس لي رغـبة أخـرى يا إلهـي،
سـوى أن تكمل ارادتك فيّ وفي جميع خلائقك.
إنـّي أستودع روحي بين يديك، وأهبها لك يا إلهي، بكل ما في قـلـبي من الحـبّ،
لأنـّي أحبك، ولأن الحـبّ يتطلـب مني أن أهـب نفـسي، أن أودعهـا بيـن يـديـك،
مـن دون ما قياس؛ وبثقة لا حدّ لها، لأنك أبي‘‘.

اعداد

 

الاب جـاك كـرم الفرنسيسي

النـاصـرة الثالث من حزيران 2005                                                                             عيد قلب يسوع الاقدس             


Source

Publicité
Commentaires
Publicité
Albums Photos
Publicité